أنجيلا روزنغارت: حد فاصل بين نقاء الفن ومغامرات بيكاسو
إسماعيل كرك
توقيع جميل لبابلو بيكاسو حملته بورتريهات بسيطة كقصة الماء، وبعيدة – قريبة كالذكرى امتدت في المسافة بين جنوب فرنسا، والإيقاع الهادئ في مدينة لوتسيرن وسط سويسرا ولخَّصَتْها علاقةُ ربع قرن، يرفل فيها حب بخطوط تتمشى بين سفوح جبال الألب والطبيعة الساحرة حول بحيرة فيْرفالدشتيتَر. فنان طالما أخذه الحنين إلى حبه الأول ولوحته الإسبانية الأولى التي لم تكتمل، فوَصَلَ ظلها لفتاة جميلة هادئة كنهر الرويس تشبه المرأة الإسبانية، اسمها أنجيلا روزنغارت. إنه حبٌّ مختلف راقٍ مٌزيًّن بميم الخِطاب شَهِدَتْهُ الفترة بين عامي 1949 و1964. «كان لدي انطباع أنه أحبني ولذلك رَسَمَني بطريقة جميلة|. تقول جامعة الأعمال الفنية وصاحبة مجموعة روزنغارت أنجيلا روزنغارت في حديثها عن لقائها الأول بالرسام العالمي.
تحمل ابنة سيغفريد روزنغارت وجارةَ نهر الرويس معرفتها في ذاكرتها وروحها، تتجول في عقلها، ترسم خرائط منزلها الدافئ في ذات المكان: البناء رقم 10 شارع بيلاتوس في مدينة لوتسيرن السويسرية، لتصنع قائمةً لشجرة عائلة اللوحات، بقُدرتها المميزة على توحيد وحدات بِكْسِلْ في عينيها، فتَتَلوَّن في كل مرة بملابس وبصمات عيون الزوار من آسيا، أوروبا، أمريكا والعالم. أقل من خمس دقائق تفصل الزائر عن محطة القطار لكن مجموعة روزنغارت الصرح الفني العالمي ما يزال حتى اللحظة محطةً تتأرجح بين زمنين.
خبرة والدها سيغفريد روزنغارت
بسبب شَغَفِهِ بالفنون الجميلة وفي سن مبكرة وتحديداً في عام 1912 يذهب سيغفريد إلى معرض سوندربوند في مدينة كولن الألمانية، المعرض الذي كان بوابةً مهمةً من بَوّابات الفن الحديث، فَتُخزِّنُ ذاكرتُه تجربةً بصرية وذهنية مميزة. يبدأ مزاد الفن منافساته فَيَرْسو سعر لوحة «لافامي دوسالتيمبَنك» التي تصور عائلة دوسالتيمبنَك كلاعبي سيرك متجولين- والتي رسمها بابلو بيكاسو سنة 1905 على خاله تاجر الفن وصاحب معرض ميونيخ الشهير هاينريش تانهاوزر. يسافر سيغفريد بعدها إلى باريس لدراسة اللغة الفرنسية، فَيَتعرَّف على بابلو بيكاسو عن طريق الكاتب والناقد وتاجر الفن البولندي فيلهلم أوديه المتخصص بالفن الألماني. حِسّ سيغفريد الفني وعينه الخبيرة جعلاه حاضراً بقوة في كل اللوحات التي جَمَعَها والتي جَمَعَتْهُ ببابلو بيكاسو، بول كلي، مارك شاغال، هنري ماتيس، أميديو موديلياني، جوان ميرو وغيرهم كثير. ما تلبث بعدها ابنته الوحيدة، أن تسير على خُطى والدها بين خطوط متدرٍّجة وضربات ريشة تعكس هذيانات الرسامين ولقطاتٍ لمَشهَدٍ فِكرَتُه الأساسية ضوءٌ شفيفٌ بِلَون اللحظة، وظِلٍّ على ورق يتربَّصُ بالعيون ويربط بين البسيط واللامعقول. سيغفريد الذي لن يكون قادراً على شراء لوحات بيكاسو مباشرةً من مرسَمِهِ نظراً لاحترامه لصديقه دانييل هنري كانفايلر وكيل بيكاسو الحصري، والذي يعتبر أهم تاجر وجامع للفن في فرنسا خلال القرن العشرين اكتشف موهبة بيكاسو عام 1907عندما لم يكن الفنان الإسباني الشاب معروفاً، فقدَّمَهُ كانفايلر للعالم. كان على سيغفريد أن يشتري لوحات بيكاسو عبر كانفايلر، إلا أن العلاقة بين بيكاسو وسيغفريد تطورت بعد عام 1949 واستطاع سيغفريد بخبرته وصدق معاملته كسب ثقة بيكاسو، فوافق على شراء لوحاته من مرسَمِهِ مباشرةً.
على خطى سيغفريد روزنغارت
تتحدث أنجيلا عن مهنة جامع اللوحات: «في سن السادسة عشرة، بعد أن كسر والدي ساقه في عطلة تزلج، دخلتُ عالم جمع الأعمال الفنية وبيعها مع أنني كنت أحلم بأن أدرس علم الآثار، لكن في سن السادسة عشرة كنت أكبر من أن أتمكن من الالتحاق بالمدرسة الثانوية. لم يكن لدى والدي موظفين، ولكن عندما كُسِرَت ساقُهُ أخبرني بأنه يحتاج مساعدتي. اضطررتُ للذهاب إلى المعرض. وما قاله لي آنذاك طبَّقتُهَ حَرفياً، وهكذا دخلتُ إلى معرض أبي الذي عَلَّمني كل شيء، قال لي وقتها: ليس عليكِ فقط شحذ عينيك من خلال المقارنات المستمرة، أو كيفية كتابة الرسائل واستقبال العملاء، بل يجب أن تتعلمي تقنية حَزم اللوحات وتسفيطها بدقة متناهية، ثم حَملَها والسير بها بطريقة متوازنة لحمايتها من أي عطب محتمل. كان تواصلي مع والدي روحياً، نحن نفهم بعضنا البعض بدون كلمات، كان ذكيًاً أيضاً، لم يقل أبداً أمام لوحة أننا سنشتريها أم لا. فقد سألني دائماً عن رأيي في العمل الفني، لأنني ينبغي أن أتخذ قراراً بنفسي، وإذا رَفضَ، يوضح لي السبب، لقد تَعَلَّمتُ كثيراً بهذه الطريقة. أما فيما يتعلق بذوقنا في الفن، فقد كنا دائماً مُتناغِمَيْن. منذ عشرينيات القرن الماضي بلغتْ سويسرا أوجها كمركز تجاري للفن، وقدم جامعو الأعمال الفنية إلى لوتسيرن عَبر باريس التي كانت أهم مركز تجارة للفن في أوروبا – من كل مكان في العالم، كان معظمهم من الولايات المتحدة. وقتها، قام فريق روزنغارت بعملٍ رائدٍ كوسيط للفن الحديث، فباع أعمال فان كوخ وسيزان وفولار وماتيس وبونار ومانيه وغريس وميرو وشاغال وبيكاسو، لمراكز فنية شهيرة، مثل تحفة إدوار مانيه «بار في فولي-بيرغر» التي اشتراها معهد كورتولد في لندن. كما كان من بين زبائننا جامٍعِيْن مثل البارون الألماني فون ديرهيدت، وجامع الفنون المهم إميل بيرليه في زيوريخ. فيما بعد قاد أسلوب سيغفريد روزنغارت الحِرفي إلى اتصالات وِدّية مع فنانين مثل مارك شاغال وجورج براك وهنري ماتيس».
بورتريهات لأنجيلا روزنغارت
تمر الأيام فيرى بيكاسو أنجيلا برفقة والدها للمرة الأولى في قرية فالوريز المشهورة بصناعة الفخاريات في نيس جنوب فرنسا. عندها قال لوالدها: «لديك ابنة جميلة|» تسمع أنجيلا عبارة بيكاسو تلك فتمتلئ رئتاها بكل هواء العالم وتشعر بفخر كبير، فهذه العبارة الموجزة شهادة مختومة بعيني أشهر فناني القرن العشرين عن جمال فتاة لم تتجاوز السابعة عشرة، كما وَصَفَتْ أنجيلا ذلك بنفسها. بعد خمس سنوات وتحديداً في الثاني من تشرين الأول عام 1954 زارت أنجيلا برفقة والدها بابلو بيكاسو وكان ذلك في فيلا كاليفورني في مدينة كان جنوب فرنسا. تقول أنجيلا عن تلك الزيارة: «اجتمعنا مع بابلو بيكاسو، تحدثنا قليلاً، ثم نظر إلي وخاطبني: تعالي غداً لأرسم لكِ بورتريه. اضطربتُ حينها لأنه طلب أن يرسمني، لم أستطع النوم في تلك الليلة حتى ساعات الصباح الأولى. في اليوم التالي جلستُ أمامه لمدة عشرين دقيقة لكنني شَعرتُ بأنها أكثر من ساعتين لأنني لم أستطع مقاومة عينيه، أحسستُ بأن عينيه ثقبتا كل أجزاء جسدي واستولتا على كامل طاقتي، بعد أن انتهى من رسم البورتريه كنتُ سعيدة بأنه لم يرسمني بأسلوبه التكعيبي بل بشكل جميل. لقد كنت فخورة جداً». يتكرر اللقاء مرةً أخرى سنة 1958 ويرسم لها بيكاسو البورتريه الثاني ثم الثالث 1962 الذي صمّمَ لها فيه قلادةً ظهرت في ذلك البورتريه، ما لبث بيكاسو أن رسم لها البورتريه الرابع والذي يعتبر الأجمل سنة 1964 لأن بيكاسو كان قد أظهر أنجيلا بالقلادة ذاتها التي رسمها في البورتريهات السابقة، لكنها كانت تبدو أوضح وأبهى، كما أظهر عينيها الطفوليتين اللتين أخذتا المساحة الأكبر من البورتريه، وما زالت أنجيلا تحتفظ بالقلادة وتزيٍّنُ بها عنقها في اللقاءات التلفزيونية والمناسبات المهمة المرتبطة بالأنشطة الفنية حتى اليوم.
تكريماً منها لمدينة لوتسيرن، تبرعت أنجيلا لمتحف المدينة بثماني لوحات ثمينة لبيكاسو بمناسبة مرور ثمنمئة عام على تأسيسها، وذلك للتسهيلات التي قدمتها بلدية لوتسيرن لوالدها ولها. كما يعترف السويسريون والعالم ككل بأن عمل أنجيلا ووالدها شاهدٌ صادقٌ على الجمال الذي يوثِّق، فقد جمعا تاريخاً محايداً، لا يقبل التزوير، وأَحبّا المعنى الفردي للحظاتٍ إبداعيةِ تستولي على الزمن واللون فتأسر العين والحَدَث، لأنها تعكس سرّاً أو تُلَخِّص مرحلةً بعينِها.
عندما سألها الصحافي السويسري ماركو فيربر عن سر اهتمام بيكاسو بها هل كان يبحث عن مغامرة جديدة مع شابة جديدة كما هو معروف عنه؟ فأجابته: «ما أتذكَّرُهَ هو أنه قال لي أنني أشبه النساء الإسبانيات» بينما أخبرها الصديق القديم لبيكاسو دانييل هنري كانفايلر أن بيكاسو رأى في أنجيلا روزنغارت حُبَّهُ الأول البريء، أو ربما لأنها نمطٌ يميل لرَسْمِه.
في الحقيقة رأى بيكاسو في أنجيلا جاذبية لا يعرف كيف يُبَرِّرُها، لأنه هو من طَلَبَ منها أن يرسمها دون أي تفسير للسبب، لكنها فتنتهُ بتواضعها، خجلها الطفولي وشخصيتها الهادئة، فأرادها خليلة روح لا مغامَرةَ ليلة، بل رفيف فَرَاشٍ رَسَمَ به بورتريهات يراقص فيها حبً صامتٌ خطوطَ خمسة فُصول خريف قبل كل لقاء.
المصدر القدس العربي