كيف حوَّلنا الإنترنت إلى آلات إنتاج للمحتوى؟
ترجمة بتكصرف، أنس سمحان | عرب 48
في البدء، كانت البيضة. نشر حساب @World_record_Egg على إنستغرام في كانون الثاني/يناير من عام 2019، صورة عشوائية لبيضة بنية عادية وأطلق حملة لجعلها أكثر الصور جمعًا للإعجابات على الإنترنت. كانت الصورة حاملة الرقم القياسي آنذاك على إنستغرام لستورمي ابنة كايلي جينر، والتي جمعت أكثر من ثمانية عشر مليون إعجابًا. تجاوز عدد الإعجابات على صورة البيضة 30 مليونًا في غضون عشرة أيام، وما تزال ضمن الصور الأكثر إعجابًا (55 مليونًا) على الإنترنت حتى يومنا هذا. تعاون منشئو الحساب، العاملين في صناعة الإعلانات، في وقت لاحق مع شبكة هولو من أجل تصوير إعلان عن الصحة النفسية حيث «تنكسر» البيضة تحت ضغوط وسائل التواصل الاجتماعي. تعد قصة البيضة مثالًا لإحدى أنواع النجاح المُعاصرة على الإنترنت: اجمع جمهورًا كبيرًا بما يكفي حول أمرٍ ما، بغض النظر عن ماهيته وأهميته، ثم بعهُ لطرفٍ آخر.
مثَّلت البيضة بالنسبة لكيت إيكهورن، مؤرخة وسائل الإعلام والأستاذة في جامعة «ذا نيو سكول» بنيويورك، على إنستغرام ما نسميه اليوم بـ «المحتوى»، وهي كلمة منتشرة في كل مكان، ولكنها صعبة التعريف. تعرف إيكهورن المحتوى في كتابها الجديد «المحتوى»، والذي يعد جزءًا من سلسلة «المعرفة الأساسية» لمطبوعات معهد ماساشوستس للتكنولوجيا[1]، على أنه أي مادة رقمية «قد يجري تداولها فقط لغرض التداول»، وبعبارة أخرى، فإن مثل هذا المحتوى كلما كان مبتذلًا في تصميمه، زاد ذلك من انتشاره في الأفضية الرقمية، وعليهِ فإن «النوع والوسيط والشكل اهتمامات ثانوية، وفي بعض الحالات، قد تختفي تمامًا»، وقد تتحول أي معلومة أو فكرة أو نص إلى كنزٍ تفترسه حلقات الپودكاست والأفلام الوثائقية والمسلسلات القصيرة المنبثقة عن مسلسلات أخرى. صارت حلقات المُسلسلات بطول الأفلام. وتظهر لوحات الفنانين التشكيليين على وسائل التواصل الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع صور عطلاتهم. صار كل شيء كما تسميه إيكهورن جزءًا من «صناعة المحتوى»، والتي نمت لتشمل كل ما نستهلكه عبر الإنترنت. تكتب إيكهورن مستحضرة التدفق الهائل للنصوص والصوتيات والمرئيات المتدفقة في صفحات خلاصتنا الرقمية[2]: «المحتوى جزء من تدفق فردي لا يمكن تمييزه».
طالما كان مصطلح «الطعم النقري» مصطلحًا يشير إلى المقالات الضحلة والمضللة عبر الإنترنت والتي لا توجد إلا لبيع الإعلانات. ولكن على الإنترنت اليوم، يمكن أن يصف مصطلح المحتوى هذا الأمر في كل القطاعات، من الإعلانات غير المميزة على صفحة إنستغرام لأحد المؤثرين إلى موسيقى البوب المنشورة بأسماء وهمية والمصممة للتلاعب بخوارزمية موقع سپوتيفاي. تستخدم إيكهورن المصطلح الفعال «رأس مال المحتوى» وهو محاكاة لمصطلح «رأس المال الثقافي» من پيير بورديو، لوصف الطريقة التي يمكن أن تحدد بها الطلاقة في النشر عبر الإنترنت نجاح أو حتى وجود عمل فنان ما. وفي حين أن مصطلح «رأس المال الثقافي» يصف كيف تمنح الأذواق والنقاط المرجعية «مكانة» معينة، فإن «رأس مال المحتوى» يشير ضمنيًا إلى القدرة/المَلَكة على إنشاء نوع المحتوى الثانوي والضروري الذي يتغذى عليه الإنترنت. ونظرًا لأن الكثير من انتباه الجمهور يتم توجيهه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن المسار الأكثر مباشرة للنجاح هو تنمية عدد كبير من المتابعين الرقميين. كتبت إيكهورن: «يجب على المنتجين الثقافيين الذين ربما ركزوا في الماضي على كتابة الكتب أو إنتاج الأفلام أو صناعة الفن أن يقضوا وقتًا طويلاً في إنتاج (أو دفع أموال لشخص آخر لإنتاج) محتوى عن أنفسهم وعملهم».
يسجل نجوم البوب روتينهم اليومي على تطبيقات مثل تيك توك. وينشر الصحفيون آراء عادية وتافهة على تويتر. تنشر الشاعرة الرقمية روبي كور، الأكثر مبيعا، فيديوهات قصيرة (ريلز) وصورا لقصائدها المطبوعة خارج الإنترنت. جميعهم محاصرون بالضغط اليومي لإنتاج محتوى إضافي مثل الميمات أو صور السيلفي أو المنشورات الاستفزازية، لملء فراغ لا نهاية له.
ستكون الديناميكيات التي تصفها إيكهورن مألوفة لأي شخص يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي بانتظام. فهي لا تفتح آفاقا جديدة لفهم الإنترنت بقدر ما توضحها لنا بعبارات فظة وبليغة تقول فيها كيف خلق سوق المحتوى بين الناس سباقا وحشيا باتجاه القاع. نحن نعلم أن ما ننشره ونستهلكه على وسائل التواصل الاجتماعي يبدو فارغًا بشكل متزايد، ومع ذلك فنحن عاجزون عن إيقافه. ربما لو كانت لدينا لغة أفضل تشرح المشكلة، لكان من الأسهل حلها. تضيف إيكهورن: «المحتوى يولد المحتوى»، وكما هو الحال مع بيضة الإنستغرام، فإن أفضل طريقة لتجميع المزيد من رأس مال المحتوى هو أن يكون لديك محتوى.
إن إحساس إيكهورن بالطريق إلى الأمام غير واضح، وتشير بإيجاز إلى فكرة «مقاومي المحتوى»، الذين يستهلكون اسطوانات الفينيل والمجلات المصورة بدلًا من سپوتيفاي وإنستغرام، ولكن مثل هذه الحلول تبدو غريبة، نظرا لتكامل الإنترنت مع حياتنا وتجاربنا اليومية. ومثل العديد من التقنيات التي ظهرت من قبل، يبدو أن الإنترنت موجود ليبقى، والسؤال ليس كيف نهرب منه، ولكن كيف نفهم أنفسنا في عواقبه التي لا مفر منها. يجادل جاستن سميث، أستاذ الفلسفة في جامعة باريس سيتي في كتابه الجديد «الإنترنت ليس ما تعتقده» بأن «الوضع الحالي لا يطاق، ولكن لا عودة إلى الوراء أيضًا». كتب سميث أن قدرًا كبيرًا من الخبرة البشرية قد سُطِّحت لتكون مناسبة لأي «بوابة تكنولوجية، وكلما زاد استخدامك للإنترنت، كلما تحولت شخصيتك إلى علامة تجارية، وتحولت ذاتيتك إلى مجموعات نشاطات يمكن توجيهها من خلال الخوارزميات».
وفقًا لسميث، فإن الإنترنت في الواقع يحد من الانتباه، بمعنى أن استخدامه يشبه تجربة جمالية عميقة تغير الشخص. يحفز نموذج الأعمال الخاص بالإعلان الرقمي فقط التفاعلات الضحلة والمختصرة لتكون جاهزة لنظرة المستهلك المهيأة لامتصاص شعار أو اسم علامة تجارية وليس أي شيء آخر. ويضيف: صُممت خلاصاتنا «لحثِّ المستهلكين المحتملين على الانتقال من عنصرٍ يحقق الدخل إلى آخر». كان لهذا تأثير مميت على جميع أنواع الثقافة، من أفلام مارفل الرائجة التي تستغل الانتباه دقيقة بدقيقة، إلى توصيات سپوتيفاي الآلية التي تقترح عليك الأغاني المُتشابهة الواحدة تلو الأخرى. تتوافق المنتجات الثقافية وعادات المستهلك على حد سواء بشكل متزايد مع هياكل المساحات الرقمية.
يبدأ كتاب «الإنترنت ليس ما تعتقده» بما هو نقد سلبي للحياة على الإنترنت، لا سيما من منظور الأوساط الأكاديمية، وهي إحدى الصناعات التي تأثرت سلبًا بهِ، لكن النصف الثاني من الكتاب يقدم تحقيقات فلسفية أعمق، ويكتب سميث: «بدلا من أن ننظر للإنترنت على أنه أداة، يجب النظر إليه على أنه «نظام حيوي». إنه تحقيق لطموح بشري عمره قرون نحو الترابط وإن كان ذلك التطلع مخيب للآمال. يروي سميث قصة الفرنسي جول أليكس، الذي نشر في منتصف القرن التاسع عشر نوعًا من الإنترنت العضوي المصنوع من القواقع. ربما بالاعتماد على نظرية الطبيب فرانز ميزمر عن «المغناطيسية الحيوانية»، التي افترضت وجود قوة مغناطيسية عالمية تربط الكائنات الحية، فقد استندت إلى فكرة أن أي حلزونيين قد تزاوجا يبقيا مرتبطين عبر مسافات كبيرة. كانت الاختراع عبارة عن جهاز يشبه التلغراف ويستخدم قواقع الحلزونات لإرسال الرسائل المزعومة، إلا إن الاختراع فشل فشلاً مدويًا، لكن حلم الاتصال اللاسلكي الفوري ظل قائماً حتى تحققه البشرية، وربما كان ذلك على حسابنا.
يبحث سميث عن أكثر الاستعارات فعالية للإنترنت، وهو مفهوم يشمل أكثر من فراغ «المحتوى» وإدمان «اقتصاد الانتباه». هل هو مثل تلغراف الحلزونات بعد تزاوجها؟ أم أنه مثل جهاز عجلة عصر النهضة التي سمحت للقراء بتصفح كتب متعددة في وقت واحد؟ أو ربما مثل النول الذي ينسج الأرواح معًا؟ لا يختار سميث إجابة واحدة، على الرغم من أنه انتهى بإدراك أن واجهة الإنترنت، ولوحة المفاتيح التي تتيح له الوصول إليها، ليست جهازًا خارجيًا بقدر ما هي امتداد لعقله الباحث. لفهم الذات على الإنترنت، يجب علينا أولاً أن نفهم الذات على الواقع، وهي مهمة متواصلة غير منقطعة. قد لا تنبع المشكلة النهائية للإنترنت من التكنولوجيا المنفصلة، ولكن من الطريقة الفرانكشتينية التي تجاوز فيها اختراع البشرية قدراتنا الخاصة. بمعنى ما، فإن بيضة إنستغرام فقست نعم، لكنها فقست غير مكتملة.