مقالات

هل المعرفة هي الاعتقاد الصحيح والمبرر؟

ضمن نظرية المعرفة عموما، وضمن مشروع “تحليل المعرفة” خصوصا، وهو مشروع يسعى إلى إبراز مكونات وشروط هذا النوع من أنواع الوصول إلى الحقيقة، من خلال السعي إلى “تحديد الشروط الضرورية فرديا، والكافية بشكل مشترك لمعرفة القضايا، والجواب بشكل كاف عن سؤال: ماهي مقتضيات المعرفة؟” وقد نالت هذه الفلسفة شهرة واسعة في أواخر القرن العشرين، كما عرفت اختلافا واسعا بين الابستمولوجيين، بحيث لم يتم الاتفاق على تحليل معين للمعرفة إلى اليوم، بل لازال بعضهم يرفض ادعاء أن المعرفة قابلة للتحليل. ويعتبر هذا المقال من أطلق الشرارة الأولى لهذا النقاش.

يعود المقال للبروفسور ادموند جيتير Edmund Gettier، وهو فيلسوف أمريكي ولد في 31 أكتوبر سنة 1927، وتوفي في مارس سنة2021. عمل بالتدريس في جامعة واين ستيت، وحصل على الدكتوراه من جامعة كورنيل، قبل أن يصبح أستاذا فخريا بجامعة ماساتشوستس Massachusetts في أمهيرست. اهتم بفلسفة اللغة، والميتافيزيقا، والمنطق، لكنه عرف بانشغاله بنظرية المعرفة. وذاع صيته من خلال نشره لهذا المقال المكون من ثلاث صفحات بعنوان “هل المعرفة هي الاعتقاد الصحيح والمبرر؟”،  الذي كتبه بناء على طلب من الجامعة، ليتم نشره في عام 1963 في مجلة “التحليل”  Analysis.

تتجلى أهمية المقال في كونه يهدم التصور التقليدي للمعرفة؛ ذلك التفسير الذي يعتبر أن المعرفة هي الاعتقاد الصحيح والمبرر. وهو التصور السائد عبر تاريخ الفلسفة منذ أفلاطون، حيث نجد في محاورة «ثيتتوس» Theaetetus، حضورا لمثل هذا التحليل، على لسان سقراط الذي يسأل الشاب ثيتتوس عن الفرق بين المعرفة والاعتقاد الصحيح؟، ليتم التوصل في نهاية المحاورة إلى اعتبار المعرفة اعتقاد صحيح له مايبرره. ويعرف هذا التفسير بالنظرية الثلاثية للمعرفة: Believe True Justified  ويرمز لها ب JTB  . لكونها تشترط شروطا ثلاثة لكل معرفة وهي: الاعتقاد، والصحة ثم التبرير.

وفقًا لإدموند جيتير، فإن العديد من الشخصيات في تاريخ الفلسفة – ومنذ أفلاطون- تعاملوا مع “الاعتقاد الصحيح والمبرر” على أنه يشكل معرفة. وقد ظلت هذه النظرية سائدة عبر تاريخ الفلسفة، ومقبولة بشكل حدسي حتى صدور مقاله هذا، الذي سيفند هذا التعريف، من خلال تقديمه لحالتين هما بمثابة حجة مضادة لنظرية JTB. يبرز من خلالهما أن بعض الاعتقادات قد تكون مبررة بالنسبة لأصحابها، ولكنها لا تعد معرفة مع ذلك، لأنها تقوم على اعتقاد خاطئ رغم وجود ما يبرره. فإذا كان (س) لا يعرف (ص) في النظرية التقليدية إلا بتوفر الشروط الثلاثة السابقة، فإن حالتي جيتير توضحان أن (ص) صحيح، وأن (س) يؤمن بـ (ص)، وأن (س) لديه سبب وجيه للاعتقاد بأن (ص)، لكن (س) لا يعرف (ص) مع ذلك. وبعبارة أخرى، فإن الحالتين اللتين قدمهما جيتير تفندان الشرط الأول لهذا التلازم، وهو الشرط الذي يعبر عن الفرضية التي بموجبها يعتبر الاعتقاد الصحيح والمبرر شرطًا كافيًا للمعرفة، وبالتالي تكذيب نظرية JTB. كما تفندان أيضا تحديد المعرفة كما اقترحه كل من شيسهولم Chisholm وأيير Ayer، لأنه يكفي في نظره استبدال القضيتين: “س له ما يبرره في الاعتقاد بأن ص” و “س له دليل كاف على أن ص ” بالقضية التالية: ” س متأكد من أن ص” لتفنيد ادعائهما.

وقد أثارت هاتين الحالتين نقاشا واسعا بين مؤيد ومعارض، حتى صار يطلق عليهما “حالتا جيتير الشهيرتين”، وصار يطلق على كل من يرفض تفسير المعرفة بأنها اعتقاد حقيقي ومبرر صفة “الغيتية”. فكما كتب ويليامسون Williamson «مقال جيتيير ليس مشهورا فقط، لكن شهرته هي نفسها مشهورة». وقد حفز هذا المقال القصير عددًا هائلاً من الأدبيات التي كرست اهتمامها لهذه المشكلة، وبالتالي إثارة مجموعة واسعة من القضايا في نظرية المعرفة. يقول أحد المعلقين على مقال جيتير »إذا أضفت عدد المرات التي تمت فيها مناقشة هذا المقال، أو الاستشهاد به في الأدبيات (آلاف المرات)، وقسمتها على عدد الكلمات في المقال ( حوالي 930) ، فإن الناتج سيكون أكبر من حاصل أي عمل فلسفي آخر تم نشره على الإطلاق «. ويظهر ذلك جليا في محركات البحث مثل جوجل حيث « ينتج محرك بحث Google Scholar ما لا يقل عن 13300 نتيجة للبحث بناءً على كلمة جيتير، ولم تتوقف المنشورات الأكاديمية حول هذا الموضوع إلى الآن، إلى درجة أن الغالبية العظمى من الفلاسفة ترى أنه لم يعد بالإمكان تعريف المعرفة بأنها الاعتقاد الصحيح والمبرر بعد جيتيير».

وقد توالت المحاولات منذ صدور هذا المقال، بحثا عن حل لمشكلة المعرفة التي تركها جيتير. وأصبح التحدي المتمثل في إصلاح التحليل التقليدي للمعرفة على ضوئها يُعرف باسم “مشكلة جيتير”. فقد تساءل كيث ليرر Keith Lehrer متحمسا “لما لا للارتيابية؟” Wa not Scepticismeسنة 1969، ليطورها إلى نظرية ” تماسك المعرفة “سنة 2000. واقترح جولدمان نظرية “الاعتقاد الحقيقي القائم على عملية معرفية موثوقة” true belief formed through a reliable cognitive process، سنة 1979. كما طور فريد دريتسكي نظرية الأسباب القاطعة   conclusine reasons سنة , 1971وبعد فشلها أضاف مسألة ” السياق” cntextualism، وألف جلبرت هيرمن ” تقرير هرمن الخاطئ” Herman s false report سنة 1973. واقترح بريتشارد Pritchard، نظرية “الاعتقاد الصحيح المبرر والآمن” safe justified true belief، سنة 2005. واقترح نوزيك نظرية “الاعتقاد الصحيح الحسي” sensitive true belief، سنة 1981، واقترحت زاكسبسكي Zagzebski نظرية “الاعتقاد الحقيقي القائم على ممارسة الفضيلة الفكرية” true belief formed through the exercise of intellectual virtue، سنة 1996. ولازالت المحاولات قائمة الى اليوم لحل مشكلة جيتير دون أن يتم الاتفاق على تحليل معين للمعرفة. ولم يتوقف الأمر عند حالتي جيتير الأصليتين، بل تم اقتراح العديد من حالات JTB المختلفة على مدار الخمسين عامًا الماضية، مما جعل نظريات المعرفة الرائدة تستمر في اختبار وتقييم حالات جيتير المتجددة.

لم ينجح مقال جيتير في التشكيك في إمكانية قيام المعرفة فقط، لكنه نجح أيضا في اثارة الشكوك حول الفلسفة برمتها، حيث طرح المقال بدوره تساؤلات محرجة حول القيمة الحقيقيّة للفلسفة، بعد أن تبيّن أن تناقضا واضحا لمثل هذه النظريّة الكبيرة، لم يتم ملاحظاته عبر آلاف السّنين. رغم أن بعض الدارسات تشير إلى أنه قد يمكن العثور على أفكار مشابهة لحالتا جيتير، في أعمال كل من برتراند راسل، والفيلسوف الهندي سريهارسا Sriharsa.

لكن رغم هذه الأهمية التي يحظى بها المقال في نظرية المعرفة عموما، وضمن الفلسفة التحليلية خصوصا، فإنه لم يتم الالتفات -على حد علمنا- إلى ضرورة ترجمته ولا أهمية إثارة قضاياه، ويعود ذلك لأمرين: أولهما ندرة الاشتغال بالفلسفة التحليلية في عالمنا العربي خصوصا، وضعف الاهتمام بنظرية المعرفة عموما، بحيث لازال يطغى التناول الأيديولوجي على التناول الابستمولوجي والعلمي الرصين. وهو ما دفعني لترجمة هذا المقال القصير والثقيل في آن،  بحكم طابعه المنطقي الصرف، الذي يفرض تحري الدقة في اختيار العبارات الأنسب، الأمر الذي اضطرني إلى الاستعانة بالترجمة الفرنسية. ورغبة في الإسهام في تنشيط حركة الترجمة في مجال الفلسفة التحليلية.

هل المعرفة هي الاعتقاد الصحيح والمبرر؟

« Is Justified True Belief Knowledge? »

Edmund Gettier

ادموند جيتير

قامت العديد من المحاولات في الآونة الأخيرة ببيان الشروط الضرورية والكافية لمعرفة قضية ما. وقد صيغت أغلبها  على الشكل التالي:

الحالة أ: س يعرف القضية ص إذا كانت:(ص) صادقة.(س) يعتقد (ص).(س) له ما يبرر اعتقاده ب (ص).

فقد ناقش الفيلسوف شيسهولم  CHISHOLM  مثلا، مسألة الشروط الكافية والضرورية للمعرفة وحددها فيما يلي:

الحالة ب: ) س (يعرف (ص (إذا كان :  (س) يقبل (ص).(س) يملك الأسباب الكافية للاعتقاد ب (ص).(ص) صادقة.

أما الفيلسوف “أيير” AYER أعلن أن الشروط الضرورية والكافية للمعرفة هي كالتالي:

– الحالة ج:

(س) يعرف (ص) إذا كانت:(ص) صادقة.(س) على يقين أن (ص) صادقة. (س) يملك الحق في التيقن أن (ص) صادقة.

ردا على هذه المحاولات سأجادل بأن الحالة (أ) خاطئة، لأن الشروط الواردة فيها لا تؤسس شروطا كافية لإثبات أن (س) يعرف (ص). وبنفس الحجة سأثبت أن الحالة (ب) والحالة (ج) ستخفقان أيضا، إذا عوضنا على التوالي عبارة: ” أن يمتلك الأسباب الكافية للاعتقاد أنّ” أو عبارة ” أن يمتلك الحق في التيقن أنّ” بعبارة ” له ما يبرر اعتقاده”.

وسأبدأ بالإشارة إلى نقطتين:

أولا: في معنى ” مبرر”، فإذا اعتبرنا أن (س) مطالب بتبرير اعتقاده ب (ص) كشرط ضروري لمعرفته، فإنه من الممكن أن يبرر المرء اعتقادا خاطئا.

ثانيا: بالنسبة للقضية (ص)، فإذا كان (س) يملك ما يبرر اعتقاده ب (ص) وكان (ص) يقتضي (ف)، وكان (س) سيستخلص (ف) من (ص)، ويقبل (ف) كنتيجة لهذا الاستدلال، فإن (س) في هذه الحالة له ما يبرر اعتقاده ب(ف).

أخذا بعين الاعتبار هاتين النقطتين، سأقدم الآن حالتين تكون فيهما الشروط المقدمة في القضية (أ) صادقة في قضية متحققة، ومع ذلك لا يكون الشخص المعني عارفا بتلك القضية.

الحالة الأولى:

لنفترض أن سميث وجونز مرشحان معا لوظيفة معينة، ولنفترض أن سميث لديه يقين جازم للاعتقاد بالقضايا المترابطة التالية:

– أن جونز هو الرجل الذي سيحصل على الوظيفة.

أن جونز لديه عشر قطع نقدية في جيبه.

وقد يكون دليل سميث على (د)، هو أن رئيس الشركة أكد له أن جونز هو من سيتم انتقاؤه في النهاية. وأنه قد عد القطع النقدية الموجودة في جيب جونز قبل عشر دقائق.

تستتبع القضية (د) القضية (ه) وهي:

– أن الرجل الذي سيحصل على الوظيفة في جيبه عشر قطع نقدية.

لنفترض أن سميث ينظر في الاستدلال من (د) إلى (ه) ويقبل القضية (ه) على أساس القضية (د) التي يمتلك يقينا جازما بصددها، في هذه الحالة فإن اعتقاد سميث بأن (ه) صادق له ما يبرره.

ولكن لنتخيل أكثر من ذلك، أن سميث لا يعلم أنه هو من سيحصل على الوظيفة وليس جونز، ولا يعلم أنه بدوره له عشر قطع نقدية في جيبه. في هذه الحالة ستصبح القضية (ه) صحيحة، رغم ان القضية (د) التي كانت أساس استدلال سميث عل القضية (ه) كاذبة.

في مثالنا هذا أيضا كل القضايا التالية صادقة:

أن (ه) صحيح.أن سميث يعتقد أن (ه) صحيح.أن سميث له ما يبرر اعتقاده بأن (ه) صحيح.

ولكن من الواضح أن سميث لا يعرف أن القضية (ه) صحيحة استنادا إلى عدد القطع النقدية الموجودة في جيبه هو، وليس في جيب جونز. لأن سميث لا يعلم عدد القطع النقدية الموجودة في جيبه، ويستند في اعتقاده بصحة (ه) إلى عدد القطع النقدية الموجودة في جيب جونز، الذي اعتقد خطأ أنه هو من سيحصل على الوظيفة.

الحالة الثانية:

لنفترض أن سميث يمتلك يقينا جازما على القضية التالية:

و- أن جونز يملك سيارة فورد.

قد تكون مبررات سميث هي -كما يتذكر- أن جونز كان عل الدوام يملك سيارة من نوع فورد، وأنه للتو عرض عليه أن يركب معه أثناء قيادته لسيارة فورد.

لنفترض الآن أن سميث له صديق آخر يدعى براون، يجهل مكان وجوده الآن، لكنه سيختار أسماء ثلاثة أمكنة بشكل عشوائي، وسيبني على إثرها القضايا لتالية:

جونز يملك سيارة فورد، وبراون في بوسطن. جونز يملك سيارة فورد، وبراون في برشلونة.جونز يملك سيارة فورد، وبراون في بريست ليتوفسك.

كل واحدة من هذه القضايا لازمة ب (و). ولنتخيل أن سميث يدرك ذلك ويقبل (ز) و (ح) و(ط) على أساس القضية (و)، وأن سميث استنتج بشكل صحيح القضايا: (ز) و (ح) و (ط) من قضية يملك بصددها يقينا جازما، وبهذا فإنه يملك المبررات الكافية للاعتقاد بكل قضية من القضايا الثلاث رغم أنه لا يملك فكرة عن مكان وجود براون.

ولكن لنتخيل الآن بأن الشرطين الآخرين تم تحققهما:

أولا: أن جونز لا يملك سيارة فورد، ولكنه يقود فعلا سيارة فورد مستأجرة.

ثانيا: أن براون، بدون علم سميث، وعن طريق الصدفة المحضة يوجد فعلا في برشلونة.

إذا تم تحقق هذين الشرطين فإن سميث لا يعرف أن القضية (ح) صادقة رغم أن:

(ح) صحيح.سميث يعتقد أن (ح) صحيح.سميث له ما يبرر اعتقاده بأن (ح) صحيح.

يوضح هذين المثالين إذن أن التحديد (د) لا يمثل شرطا كافيا لامتلاك معرفة بقضية ما، وهو نفس الأمر بالنسبة للتحديد (ب) و (ج)، وإجراء بعض التعديلات المناسبة سيعطي نفس النتيجة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى